التنوع الثقافي خاصية جميع مجتمعات العالم،
حيث لا نكاد نجد مجتمعا أو بلدا يتوفر على تجانس ثقافي أو لغوي أو ديني مطلق، حيث يطبع
التنوع كل مناحي الحياة البشرية، في اللسان والعادات والتقاليد والمعتقدات وغير ذلك.
كما يفيد التنوع الثقافي الاختلافات القائمة بين المجتمعات الإنسانية في الأنماط الثقافية
السائدة فيها و يتجلى هذا التنوع من خلال أصالة و تعدد الهويات المميزة للمجتمعات التي
تتألف منها الإنسانية.
ونظرا لأن الدولة الوطنية الحديثة قامت
على ضرورة صهر المكونات المختلفة من أجل تقوية الدولة المركزية، إلا أن هذا النموذج
سرعان ما أصبحت تعترضه عقبات كبيرة ممثلة في عدم استجابته لحاجات المجتمعات في حماية
تنوعها وتراثها الغني، مما أدى إلى ظهور الحركات الاحتجاجية التي مارست الكثير من الضغوط
المدنية والسياسية التي جعلت العديد من الدول تنتقل من النموذج التقليدي للدولة الوطنية
إلى نماذج أكثر انفتاحا على التنوع واحتراما ورعاية له.
وقد أصبح التنوع بموجب ذلك حقا من الحقوق
التي تطالب بها المجموعات المختلفة، وصدرت العديد من الوثائق والمرجعيات الحقوقية الدولية
التي تكرس الحقوق الثقافية واللغوية، مما وفر أرضية خصبة للحق في التنوع الثقافي الذي
أصبح من حقوق المواطنة.
وإذا كانت الحقوق اللغوية والثقافية جزءا
لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق كونية، فقد أصبح من حق كل مجموعة أن تتمتع بالقدرة
على التعبير عن خصوصياتها، كما صار بإمكان المجموعات الثقافية واللغوية أن تتبادل المعارف
والخبرات وتؤثر وتتأثر ببعضها في إطار نفس المجتمع الذي يعتبر تنوعه غنى وثراء ومصدر
افتخار واعتزاز.
ويعد المغرب بلدا غنيا من حيث تنوعه الثقافي
واللغوي منذ أقدم العصور، حيث تفاعلت في إطاره حضارات عريقة تعاقبت على أرضه، كما شهد
انطلاقا من موقعه الجغرافي المنفتح على العمق الإفريقي وعلى البوابة المتوسطية وعلى
الشرق الأوسط وأوروبا تفاعلا حضاريا كبيرا بين مكونات عديدة ساهمت جميعها في تشكيل
حضارته وشخصيته الثقافية المتعددة.
ففي التاريخ القديم لشمال إفريقيا تفاعل
الأمازيغ السكان الأصليون مع بعض الشعوب الإفريقية وشعوب حوض البحر الّأبيض المتوسط،
التي برزت في فترات معينة على مسرح الأحداث مثل الفينيقيين والقرطاجيين والرومان والوندال
ثم البيزنطيين، كما تفاعلوا مع العرب في المرحلة الإسلامية ومن خلال ذلك مع الحضارات
الشرقية، مما سمح بتشكيل معالم للتنوع الثقافي واللغوي في المغرب، حيث رصد جوانب التأثير
والتأثر التي تجلت بالخصوص في اللغة الأم للسكان الأمازيغ والتي تفاعلت مع اللغات الأخرى
الوافدة ونتج عن ذلك لغات جديدة وسيطة مثل الدارجة المغربية التي هي نتاج تفاعل اللغتين
الأمازيغية والعربية، مما ميز المغرب بتنوع لغوي وثقافي ساهم في إثراء هويته وتعددها
وتميزها، وإذا كان هذا التنوع قد ظل مجهولا ومهمّشا لعقود طويلة بعد الاستقلال، فإن
دستور يوليوز 2011 قد أقرّ مختلف مكونات التنوع الثقافي واللغوي المغربي، وأكد على
ضرورة احترام هذا التنوع والتعدد الهوياتي والمحافظة عليه . كما عرف المغرب توجهات
سياسية إيجابية بعد ما نص الدستور الجديد على إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية،
والذي سيهتم بحماية وتنمية مقومات الهوية الوطنية العربية والأمازيغية والحسانية، والروافد
الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية إضافة إلى العناية بالتراث والإبداع.
ويشكل التنوع الثقافي رافعة للتنمية وضمان
الاستقرار كما يساهم عند إقراره وضمان الحفاظ عليه في ضمان الاستقرار السياسي وتعميق
الانسجام الاجتماعي عكس ما كان يُعتقد، وهذا ما يستدعي سياسيا سلوك الديمقراطية منهجا
لتكريس هذا التنوع والحفاظ على التعدد وقيم التسامح والعدالة الإجتماعية والحرية. وحيث
أن التعددية الثقافية لا يمكن فصلها عن وجود إطار ديموقراطي فانها تيسر المبادلات الثقافية
وتؤدي إلى ازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة العامة.
ويساهم كذلك القبول
بالتنوّع الثقافي والإقرار به – عبر الاستعمال الإبداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات
والاتصالات بشكل خاص – في خلق الحوار بين الحضارات والثقافات وفي بلوغ الاحترام والتفاهم
المتبادل ولهذا يكمن الرهان الحقيقي على المستوى الكوني في النهوض بالتنوع الثقافي
باعتباره "تراثا إنسانيا مشتركا" يساهم في التقارب بين الشعوب والأمم، ونشر
ثقافة التسامح والتبادل الإيجابي (إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي
2001).
لقد أتت معاهدة اليونسكو
لسنة 2005 بضمان حرية التعبير وتعددية وسائل الإعلام والتعددية اللغوية والمساواة في
فرص الوصول إلى أشكال التعبير الفني والثقافي والحضور الكامل في وسائل التعبير والنشر
وهي مفاهيم وقيم تعتبر في إطار القانون الدولي ضمانات للتنوع الثقافي.
في إطار المنطلقات
المشار إليها عمل المغرب خلال العقد الأخير على تسوية الخلافات المتعلقة بالتنوع اللغوي
والثقافي، وخاصة بتدبير ملف الأمازيغية في إطار الحوار الوطني، وذلك بهدف الحفاظ على
الثقافة الأمازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي
والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي، بالإضافة إلى التعابير الأخرى من الحسانية
واليهودية وغيرها . وبهذا تموقع المغرب في مكانة متميزة في شمال إفريقيا بخصوص حسن
تدبير التنوع الثقافي، وخير دليل على ذلك أنه يعد حاليا نموذجا مرجعيا بارزا في تدبير
التنوع على الصعيد الإفريقي والشرق أوسطي، باعتماده سياسة منفتحة على كل مكوناته الثقافية.
إرسال تعليق